الرؤية – حامد منصور
كثيرة هي محطات المد والجزر في العلاقات المغربية الموريتانية، التي تجد أمامها العديد من الأسباب لعدم استدامة الثقة بين الطرفين، وكلمة السر في كل ذلك هي جبهة “البوليساريو” الانفصالية، التي فرضت على البلدين المغاربيين اتخاذ مسارين متضاربين في التعامل مع ميليشيات جبهة تحظى بالتمويل والتسليح من لدن الجزائر منذ سبعينات القرن الماضي، والمستمر حتى بعد انقطاع العديد من شرايينها التقليدية، مثل الاتحاد السوفياتي ثم ليبيا القذافي.
غير أن الرباط ونواكشوط تسيران بثبات، وإن ببطء، نحو رسم معالم جديدة، ترتكز أساسا على المصلحة المشتركة، وعلى التعاون في العديد من المجالات وخصوصا الاقتصادي والأمني، لدرجة أن آخر الأرقام الرسمية تتحدث عن أن موريتانيا أصبحت تأتي بنصف وارداتها خصوصا من الخضر والفواكه والمواد الغذائية والمصنعة من المغرب، وهو الأمر الذي يعد تطورا طبيعيا لمسار التقارب الذي برز مع وصول الرئيس الحالي، محمد ولد الشيخ الغزواني، إلى الحكم، في غشت من سنة 2019، وشهد دفعة أكبر إثر أحداث الكركارات سنة 2020.
المغرب.. الشريان التجاري الأهم لموريتانيا
آخر مؤشرات التقارب المغربي الموريتاني، أعلنت عنها سفارة المملكة المغربية في نواكشوط قبل أيام، حيث أفادت أرقام قِسمها الاقتصادي أن المبادلات التجارية بين البلدين شهدت “دينامية غير مسبوقة” خلال سنة 2022، إذ ناهزت قيمتها 300 مليون دولار أمريكي، محققة بذلك نسبة نمو بلغت 58 في المائة مقارنة مع سنة 2020، كما سجلت أن المغرب أصبح أول مورد إفريقي للسوق الموريتاني، محتكرا 50 في المائة من البضائع التي تستوردها نواكشوط، كما أن الأمر يتعلق بأكثر من 73 في المائة من مجمل الواردات الموريتانية القادمة من الدول المغاربية.
ووفق السفارة دائما، فإنه على مستوى بنية الصادرات المغربية نحو موريتانيا، فإن 80 في المائة منها تتكون من ثلاث فئات تهم المواد الغذائية والزراعية والمواد المصنعة وآلات ومعدات النقل، وتشكل الخضر والفواكه حوالي 20 في المائة من إجمالي تلك البضائع، مبرزة أن العديد من العوامل تقف وراء هذا النمو، منها الجوار الجغرافي بين البلدين وسلاسة التعاملات بين الموردين المغاربة ونظرائهم الموريتانيين، وجودة السلاسل اللوجيستية والجودة العالية والسمعة الطيبة التي تتميز بها المنتجات المغربية في السوق الموريتانية.
لكن كلمة السر في كل ذلك، هي معبر “الكركارات” وفق ما ورد في معطيات السفارة المغربية دائما، التي تحدثت عن “الدور الكبير” الذي يلعبه هذا المعبر الحدودي بين المغرب وموريتانيا في انسيابية التبادل التجاري بين البلدين، على اعتبار أن النقل الطرقي يظل أهم وسيلة الأهم في تنشيط هذه المبادلات، وذكرت التمثيلية الدبلوماسية المغربية أنه طيلة جائحة كورونا، تم الإبقاء على المعبر مفتوحا في وجه حركية البضائع ما مكن من أجل الحفاظ على حجم التبادل التجاري بين البلدين في تلك الظروف.
الكركارات.. نقطة التحول
يمكن القول إن ما جرى في الكركارات فتح أعين موريتانيا على أمرين هامين، الأول هو أن خطر تحركات “البوليساريو” يمكن أن يضع البلد بأكمله في مأزق، دون أي مراعاة لمصالحه الاقتصادية واحتياجات مواطنيه، والثاني هو أن المغرب يلعب دورا مركزيا على حماية الحدود الموريتانية من جهة وفي تأمين احتياجات أسواقها من مواد غذائية ومنتجاتٍ أساسية من جهة أخرى.
ولمدة قاربت الشهر، وجدت نواكشوط نفسها مضطرة لمعاينة الأضرار، عندما احتل العشرات من عناصر الجبهة الانفصالية الطريق البري الوحيد الذي يربطها بالمغرب بمنطقة الكركارات، والذي كانت تمر عبره الشاحنات المحملة بالبضائع، وتدريجيا أصبح الموريتانيون يشتكون من نفاذ السلع من الأسواق، بما في ذلك العاصمة، في حين كان الانفصاليون يحتفلون بما اعتبروه “انتصارا” على المغرب.
وفجأة، ودون مقدمات، نفذت القوات المسلحة الملكية التدخل الميداني في الكركارات بتاريخ 13 نونبر 2020، وفي ظرف بضعة ساعات كانت المنطقة قد خلت من عناصر الجبهة الانفصالية، لتبدأ الرباط بعدها مباشرة تغيير وجه المنطقة بشكل جذري، بما يشمل توسيع الطريق البري وإعادة تهيئة المعبر الحدودي والمنطقة بأكملها، والأهم من ذلك، توسيع الجدار الأمني في عمق المنطقة العازلة في اتجاه الحدود الموريتانية.
وسمح كل ذلك، بعودة النشاط التجاري البيني بسرعة، والتعجيل بإنهاء أزمة التموين التي عاشتها الأسواق الموريتانية، بل إن مرحلة ما بعد عملية الكركارات الميدانية أعطت دينامية جديدة للنشاط الاقتصادي المغربي الموريتاني، وهو جوهر المقارنة التي اعتمدتها السفارة المغربية في نواكشوط، حين استحضرت سنة 2020 وسنة 2022 ضمن المعطيات التي أوردتها، فالسيطرة المغربية التامة وإبعاد عناصر “البوليساريو” عن المعبر الحدودي كانت كلمة السر في تلك القفزة، لكن باستحضار الدور الموريتاني أيضا.
الموريتانيون ينتبهون للخطر
يمكن القول إن ما جرى في الكركارات، وضع نواكشوط أمام مسؤوليتها الأمنية على الحدود المشتركة مع المغرب، لأن عناصر “البوليساريو” تسللوا إلى المنطقة من الحدود الشمالية لموريتانيا، وهو ما يفسر إقدام الحكومة الموريتانية، بتاريخ 6 يناير 2021، على المصادقة على مشروع مرسوم يقضي بإنشاء منطقة دفاع حساسة على طول حدودها الشمالية المتاخمة للصحراء المغربية.
والمثير للانتباه في هذا المشروع هو تأكيد نواكشوط أن هذا المرسوم يحدد إحداثيات المعالم البرية التي تجسد حدود المنطقة المذكورة، التي تقع في الشمال وتعتبر خالية أو غير مأهولة، وقد تشكل أماكن للعبور بالنسبة للإرهابين ومهربي المخدرات وجماعات الجريمة المنظمة، وهو التوصيف الذي ينطبق على عناصر “البوليساريو”، على الرغم من تفادي الحكومة الموريتانية ربط الأمر صراحة بما جرى في الكركارات.
وتعترف موريتانيا بما يسمى “الجمهورية الصحراوية” منذ 1979، وهي الخطة التي جرت في إطار سعي البلاد، في عهد محمد محمود ولد لولي، الذي كان حينها رئيسا لـ”المجلس العسكري للخلاص الوطني”، في أعقاب الانقلاب على أول رئيس للبلاد وهو المختار ولد داداه، إلى إنهاء الحرب التي كانت قاسية على الدولة الوليدة حينها، التي لم تستطع حماية عاصمتها من ضربات الجبهة الممولة والمسلحة من الجزائر وليبيا والاتحاد السوفياتي وكوبا حينها.





